البينة العلمية في القرآن 1
صفحة 1 من اصل 1
البينة العلمية في القرآن 1
الكتاب الأول:
البينة العلمية في القرآن
بقلم الشيخ عبد المجيد الزنداني
إن البينة(المعجزة) القرآنية الموجودة بين أيدينا والباقية بعدنا إلى ماشاء الله تحمل الرسالة الإلهية إلى البشر ، كما تحمل الدليل على صدق هذه الرسالة فهي الشاهد والمشهود عليه كما قال تعالى﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾(هود:17).(1)والقرآن معجز بلفظه ومعناه ،لأنه من عند الله،فألفاظه إلهية ومعانية وعلومه إلهية،وكل منها يدل على المصدرالذي جاء منه هذا القرآن.وهو بذلك أكبر دليل وشهادة بين أيدينا قال تعالى
﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾(الأنعام:19) فهو رسالة ومعجزة لمن نزل عليهم ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة . وقد جعل الله العلم الإلهي الذي تحمله آيات القرآن هو البينة الشاهدة على كون هذا القرآن من عند الله كما قال تعالى﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾(النساء:166) أي أنزله وفيه علمه(2). ففي هذه الآية بيان لطبيعة المعجزة العلمية ، التي نزلت رداً على إنكار الكافرين ، لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي تبقى بين يدي الناس ، وتتجدد مع كل فتح بشري في آفاق العلوم والمعارف ذات الصلة بمعاني الوحي الإلهي . قال الخازن عند تفسير هذه الآية : "لكن الله يشهد لك يا محمد بالنبوة ، بواسطة هذا القرآن الذي أنزله عليك (3)". وقال ابن كثير : " فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب ، وهو القرآن العظيم .. ولهذا قال: أنزله بعلمه : أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه ،من البينات والهدى ، والفرقان ، وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه ، وما فيه من العلم بالغيوب ، من الماضي والمستقبل(4) ". وقال أبو العباس ابن تيمية (5): فإن شهادته بما أنزل إليه هي شهادته بأن الله أنزله منه، وأنه أنزله بعلمه(6)،فما فيه من الخبر ، هو خبر عن علم الله ، ليس خبراً عمن دونه، وهذا كقوله﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾(هود:14). وكل آية من كتاب الله تحمل علماً إلهياً يعرفه البشر عند ارتقائهم بأسباب العلوم والمعارف في ذلك الميدان الذي تتحدث عنه الآية القرآنية . والقرآن ملئ بالآيات التي تتحدث عن مظاهر الكون ، وحديثه عن الكون هو حديث من يعلم أسراره ودقائقه ، مع أن البشرية كلها في وقت النبي لم تكن تعلم معظم تلك الأسرار، وكان يغلب على تفكيرها الأسطورة والخرافة. لذلك رأينا الجراح الفرنسي العالمي الشهير الدكتور: موريس بوكاي يتقدم إلى البشرية بأطروحة قال فيها : لقد قامت الأدلة على أن القرآن الذي نقرأه اليوم ، هو نفس القرآن الذي قرأه النبي محمد ، وما دام أن القرآن قد أفاض في الحديث عن الكون وأسراره ، فإننا نستطيع بهذه الحقيقة أن نعرف منها إذا كان القرآن من عند الله باختبار يعرفه كل عاقل في عصرنا . فإذا كان القرآن من عند محمد ، وهو مملوء بالوصف لمظاهر الكون : الأرض ، السماء ، الجبال ، البحار ، الأنهار ، الشمس ، القمر ، النبات ، الحيوان ، الإنسان ، الرياح ، الأمطار .. وغير ذلك ،فإن حديثه عن هذه المظاهر الكونية سيعكس لنا علم محمد صلى الله عليه وسلم وثقافته عن المخلوقات وأسرارها ، كما يعكس لنا علم مجتمعه وبيئته، وعلوم عصره في ذلك المجال ، وهي علوم غلبت عليها السذاجة والخرافة والأسطورة، وسنجد القرآن عندئذ مملوءاً بالخرافة والأسطورة والخبر الساذج عند حديثه عن الكون وأسراره ، كما هو شأن كل الكتب التي دونت في تلك الأزمنة بما فيها الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى التوراة والإنجيل التي طرأ عليها التحريف، هذا إذا كان القرآن من عند محمد . أما إذا كان القرآن من عند الله فسنراه عند حديثه عن المخلوقات وأسرارها يسبق مقررات العلوم الحديثة, وسنرى الاكتشافات العلمية تلهث وراءه فتقرر ما فيه من حقائق وتؤكد ما فيه من مقررات في شتى المجالات . ولقد قضى الدكتور موريس بوكاي لتحقيق هذا الاختبار عشر سنوات يتعلم فيها القرآن واللغة العربية ، ويقارن بين القرآن وبين الكشوف العلمية الحديثة , ثم ألف كتاباً سماه :" دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة " . وقد أثبت فيه سلامة القرآن من التحريف, ودخول التحريف على التوراة والإنجيل وأثبت تعارض التوراة والإنجيل مع العلوم الحديثة؛ كما أثبت سبق القرآن لهذه العلوم وبين أن هذا مما اشتمل عليه وعد الله القائل﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(فصلت:53). يقول د. بوكاي : "إن القرآن لا يخلو فقط من متناقضات الرواية وهي السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل بل هو يظهر أيضاً – بكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم – طابعه الخاص وهو التوافق مع المعطيات العلمية الحديثة . بل أكثر من ذلك ، وكما أثبتنا ، يكتشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمي من المستحيل تصور أن إنساناً في عصر محمد قد استطاع أن يولفها، وعلى هذا فالمعارف الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بلآ تفسير صحيح حتى الآن(7) . فهاهو ذا الحق يتبين كما وعد الله ، وهاهي ذي المعاني التفصيلية التي تضمنتها الآيات القرآنية عن الحقائق الكونية تُرى وتتجلى فتُعلم، كما قال تعالى﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ87وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ88﴾(ص:87-88). قال الفراء( في تفسير الحين الذي ذكرته الآية أنه:" بعد الموت وقبله ، أي لتظهر لكم حقيقةما أقول(بعد حين) أي في المستأنف(9) ". وذهب السدي(10) الكبير إلى هذا المعنى(11). وقال ابن جرير الطبري، بعد ذكر الأقوال المتعددة، في تفسير الحين الذي ذكرته الآية : و أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : أن الله أعلم المشركين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين ، من غير حد منه لذلك الحين بحد ، ولا حد عند العرب للحين لا يجاوز ولا يقصر عنه، فإذا كان ذلك كذلك، فلا قول فيه أصح من أن يطلق، كما أطلقه الله، من غير حصر ذلك على وقت دون وقت(12).
ومن أمثلة البينة العلمية في القرآن ما يأتي :
________________________________________
1- وصف الحاجز بين البحرين
التحقيق العلمي :
لقد توصل علماء البحار بعد تقدم العلوم في هذا العصر، إلى اكتشاف الحاجز بين البحرين، فوجدوا أن هناك برزخاً يفصل بين كل بحرين ،ويتحرك بينهما ويسميه علماء البحار الجبهة تشبيهاً له بالجبهة التي تفصل بين جيشين.وبوجود هذا البرزخ يحافظ كل بحر على خصائصه التي قدرها الله له، ويكون مناسباً لما فيه من كائنات حية تعيش في تلك البيئة.ومع وجود هذا البرزخ فإن البحرين المتجاورين يختلطان اختلاطاً بطيئاً،يجعل القدر الذي يعبر من بحر إلى بحر آخر يكتسب خصائص البحر الذي ينتقل إليه عن طريق البرزخ الذي يقوم بعملية التقليب للمياةالعابرةمن بحرٍ إلى بحر؛ليبقى كل بحرٍ محافظاً على خصائصه تدرج العلم البشري لمعرفة حقائق اختلاف مياه البحار وما بينها من حواجز :
• اكتشف علماء البحار أن هناك اختلافاً بين عينات مائية أخذت من البحار المختلفة في عام 1284هـ- 1873م على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة تشالنجر، فعرف الإنسان أن المياه في البحار تختلف في تركيبها عن بعضها البعض من حيث درجة الملوحة، ودرجة الحرارة ، ومقادير الكثافة ، وأنواع الأحياء المائية، ولقد كان اكتشاف هذه المعلومة بعد رحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام، جابت جميع بحار العالم. وقد جمعت الرحلة معلومات من 362 محطة مخصصة لدراسة خصائص المحيطات. وملئت تقارير الرحلة 29.500 صفحة في خمسين مجلداً استغرق إكمالها 23 عاماً. وإضافة إلى كون الرحلة أحد أعظم منجزات الاستكشاف العلمي فإنها أظهرت كذلك ضآلة ما كان يعرفه الإنسان عن البحر (13).
• بعد عام 1933م قامت رحلة علمية أخرى أمريكية في خليج المكسيك، ونشرت مئات المحطات البحرية، لدراسة خصائص البحار، فوجدت أن عدداً كبيراً من هذه المحطات تعطي معلومات موحدة عن خصائص الماء في تلك المنطقة ، من حيث الملوحة والكثافة والحرارة والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء، بينما أعطت بقية المحطات معلومات موحدة أخرى عن مناطق أخرى، مما جعل علماء البحار يستنبطون وجود بحرين متمايزين في الصفات لا مجرد عينات محدودة كما علم من رحلة تشالنجر.
• وأقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يميز مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض ، لكن لماذا لا تمتزج البحار وتتجانس رغم تأثير قوتي المد والجزر التي تحرك مياه البحار مرتين كل يوم، وتجعل البحار في حالة ذهاب وإياب ، واختلاط واضطراب، إلى جانب العوامل الأخرى التي تجعل مياه البحر متحركة مضطربة على الدوام مثل الموجات السطحية والداخلية والتيارات المائية والبحرية ؟ولأول مرة يظهر الجواب على صفحات الكتب العلمية في عام1361هـ-1942م. فقد أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن اكتشاف حواجز مائية تفصل بين البحار الملتقية ، وتحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث الكثافة والملوحة ، والأحياء المائية ، والحرارة، وقابلية ذوبان الأوكسجين في الماء. وبعد عام 1962م عرف دور الحواجز البحرية في تهذيب خصائص الكتل العابرة من بحر إلى بحر لمنع طغيان أحد البحرين على الآخر فيحدث الاختلاط بين البحار الملحة ، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحدودة بوجود تلك الحواجز. ويبين الشكل التالي حدود مياه البحر الأبيض المتوسط الساخنة والملحة، عند دخولها في المحيط الأطلسي ذي المياه الباردة والأقل ملوحة منها.
• وأخيراً تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار الملحة عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الصناعية ، والتي تبين أن مياه البحار وإن بدت جسماً واحداً ، إلا أن هناك فروقاً كبيرة بين الكتل المائية للبحار المختلفة ، تظهر بألوان مختلفة تبعاً لاختلافها في درجة الحرارة .وفي دراسة ميدانية(14) للمقارنة بين مياه خليج عمان والخليج العربي بالأرقام والحسابات والتحليل الكيمائي، تبين اختلاف كل منهما عن الآخر من الناحية الكيميائية والنباتات السائدة في كل منهما ووجود البرزخ الحاجز بينهما . وقد تطلب الوصول إلى حقيقة وجود الحواجز بين الكتل البحرية ، وعملها في حفظ خصائص كل بحر قرابة مائة عام من البحث والدراسة ، اشترك فيها المئات من الباحثين، واستخدم فيها الكثير من الأجهزة ووسائل البحث العلمي الدقيقة . بينما جلى القرآن الكريم هذه الحقيقة قبل أربعة عشر قرناً ، قال تعالى:﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ19بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ20فَبِأَيِّ ءَالَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ21يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ22﴾ (الرحمن:19-22).وقال تعالى:﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ﴾ (النمل:61).
________________________________________
المعاني اللغوية وأقوال المفسرين :
مرج : قال ابن فارس : مرج : الميم والراء والجيم أصل صحيح يدل على مجيء وذهابٍ واضطراب، ومرج الخاتم في الإصبع : قلق ، وقياس الباب كله منه ومرجت أمانات القوم وعهودهم : اضطربت واختلطت، والمَرْج : أصله أرض ذات نبات تمرج فيها الدواب(15). البحرين : قال ابن فارس: الباء والحاء والراء، قال الخليل: سمي البحر بحراً لاستبحاره وهو انبساطه وسعته... ويقال للماء إذا غلظ بعد عذوبته استبحر، وماء بحري أي مالح (16). وقال الأصفهاني : (17)وقال بعضهم : البحر يقال في الأصل للماء المالح دون العذب(18). وقال ابن منظور(19): وقد غلب على المالح حتى قلّ في العذب(20).فإذا أطلق البحر دل على البحر المالح، وإذا قيد دل على ما قيد به. والقرآن يستعمل لفظ الأنهار للدلالة على المياه العذبة الكثيرة الجارية.ويستعمل لفظ البحر ليدل على البحر المالح قال تعالى﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ﴾(إبراهيم:32).وكذلك يستعمل لفظ البحر في الحديث للدلالة على الماء الملح، فقد سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ:يا رسول الله إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟فقال رسول الله(هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)(21)
________________________________________
البرزخ : هو الحاجز : وقد ذهب أكثر المفسرين(22) إلى أنه لا يرى .البغي : قال ابن منظور: وأصل البغي مجاوزة الحد(23)، وبمثله قال الجوهري(24) والأصفها(25)ني. المرجان : قال ابن الجوزي(26) : وحكى القاضي أبو يعلي أن المرجان ضرب من اللؤلؤ كالقضبان وروي عن الزجاج(27) قوله : المرجان أبيض شديد البياض (28). وقال ابن مسعود : المرجان الخرز الأحمر . ونقل أبو حيان(29) عن بعضهم أن المرجان هو الحجر الأحمر(30). وقال القرطبي: وقيل المرجان عظام اللؤلؤ وكباره ، قاله علي وابن عباس رضي الله عنهما، واللؤلؤ صغاره، وعنهما أيضاً بالعكس أن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ والمرجان صغاره وقاله الضحاك وقتادة (31). وقال الألوسي(32): وأظن أنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان ، وفي المرجان معنى المرج والاختلاط فالأوفق لذلك ما قيل ثانياً فيهما(33). أي أن اللؤلؤ ما عظم منه والمرجان اللؤلؤ الصغار . والحاصل أن المرجان نوع من الزينة يكون بألوان مختلفة بيضاء وحمراء، ويكون كبيراً وصغيراً، وهو حجر يكون كالقضبان، وقد يكون صغيراً كاللؤلؤ أو الخرز ، وهو في الآية غير اللؤلؤ، وحرف العطف بينها يقتضي المغايرة . هذا والمرجان لا يوجد إلا في البحار الملحة. والآيات ترينا دقائق الأسرار التي كشف عنها اليوم علم البحار ، فهي تصف اللقاء بين البحار الملحة ودليل ذلك مايلي:
أولاً : لقد أطلقت الآية لفظ البحرين بدون قيد ، فدل ذلك على أن البحرين ملحان .
ثانياً : بينت الآيات في سورة الرحمن أن البحرين يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وقد تبين أن المرجان لا يكون إلا في البحار الملحة، فدل ذلك على أن الآية تتحدث عن بحرين ملحين، قال تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَان﴾ أي يخرج من كل منهما. فمن الذي كان يعلم أن البحار الملحة تتمايز فيما بينها رغم اتحادها في الأوصاف الظاهرة التي تدركها الأبصار والحواس، فكلها ملحة ، زرقاء ، ذات أمواج ، وفيها الأسماك وغيرها وكيف تتمايز وهي تلتقي مع بعضها؟ والمعروف أن المياه إذا اختلطت في إناء واحد تجانست، فكيف وعوامل المزج في البحار كثيرة من مد وجزر وأمواج وتيارات وأعاصير ؟ والآية تذكر اللقاء بين بحرين ملحين يختلف كل منهما عن الآخر، إذ لو كان البحران لا يختلف أحدهما عن الآخر لكانا بحراً واحداً ، ولكن التفريق بينهما في اللفظ القرآني دال على اختلافٍ بينهما مع كونهما ملحين . و ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان﴾ِ أي أن البحرين مختلطان، وهما في حالة ذهاب وإياب واختلاط واضطراب في منطقة الالتقاء، كما تدل اللغة على ذلك بلفظ مرج، وهذا ما كشفه العلم من وصف لحال البرزخ الذي يكون متعرجاً ومتنقلاً في الفصول المختلفة بسبب المد والجزر والرياح . ومن يسمع هذه الآية فقط ، يتصور أن امتزاجاً واختلاطاً كبيراً يحدث بين هذه البحار يفقدها خصائصها المميزة لها، ولكن العليم الخبير يقرر في الآية بعدها ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ أي ومع حالة الاختلاط والاضطراب هذه التي توجد في البحار، فإن حاجزاً يحجز بينهما يمنع كلاً منهما أن يطغى ويتجاوز حده . وهذا ما شاهده الإنسان بعدما تقدم في علومه وأجهزته ، فقد وجد ماء ثالثاً حاجزاً بين البحرين يختلف في خصائصه عن خصائص كل منهما . ومع وجود البرزخ فإن ماء البحرين المتجاورين يختلط ببطء شديد، ولكن دون أن يبغي أحد البحرين على الآخر بخصائصه؛ لأن البرزخ منطقة تقلب فيها المياه العابرة من بحر إلى آخر لتكتسب المياه المنتقلة بالتدريج صفات البحر الذي ستدخل إليه، وتفقد صفات البحر الذي جاءت منه وبهذا لا يبغي بحر على بحر آخر بخصائصه، مع أنهما يختلطان أثناء اللقاء، وصدق الله القائل ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ19بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ20﴾ (الرحمن:19-20).ولقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن الحاجز الذي يفصل بين البحرين المذكورين هو حاجز من قدرة الله لا يرى(34). وقد أشكل على بعض المفسرين الجمع بين اختلاط مياه البحار مع وجود البرزخ، إذ أن وجود البرزخ الحاجز يقتضي منع الاختلاط، وذكر الاختلاط مرج يقتضي عدم وجود البرزخ ، وقد زال الإشكال اليوم باكتشاف أسرار البحر على حقائقها .
________________________________________
البينة العلمية في القرآن
بقلم الشيخ عبد المجيد الزنداني
إن البينة(المعجزة) القرآنية الموجودة بين أيدينا والباقية بعدنا إلى ماشاء الله تحمل الرسالة الإلهية إلى البشر ، كما تحمل الدليل على صدق هذه الرسالة فهي الشاهد والمشهود عليه كما قال تعالى﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾(هود:17).(1)والقرآن معجز بلفظه ومعناه ،لأنه من عند الله،فألفاظه إلهية ومعانية وعلومه إلهية،وكل منها يدل على المصدرالذي جاء منه هذا القرآن.وهو بذلك أكبر دليل وشهادة بين أيدينا قال تعالى
﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾(الأنعام:19) فهو رسالة ومعجزة لمن نزل عليهم ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة . وقد جعل الله العلم الإلهي الذي تحمله آيات القرآن هو البينة الشاهدة على كون هذا القرآن من عند الله كما قال تعالى﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾(النساء:166) أي أنزله وفيه علمه(2). ففي هذه الآية بيان لطبيعة المعجزة العلمية ، التي نزلت رداً على إنكار الكافرين ، لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي تبقى بين يدي الناس ، وتتجدد مع كل فتح بشري في آفاق العلوم والمعارف ذات الصلة بمعاني الوحي الإلهي . قال الخازن عند تفسير هذه الآية : "لكن الله يشهد لك يا محمد بالنبوة ، بواسطة هذا القرآن الذي أنزله عليك (3)". وقال ابن كثير : " فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب ، وهو القرآن العظيم .. ولهذا قال: أنزله بعلمه : أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه ،من البينات والهدى ، والفرقان ، وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه ، وما فيه من العلم بالغيوب ، من الماضي والمستقبل(4) ". وقال أبو العباس ابن تيمية (5): فإن شهادته بما أنزل إليه هي شهادته بأن الله أنزله منه، وأنه أنزله بعلمه(6)،فما فيه من الخبر ، هو خبر عن علم الله ، ليس خبراً عمن دونه، وهذا كقوله﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾(هود:14). وكل آية من كتاب الله تحمل علماً إلهياً يعرفه البشر عند ارتقائهم بأسباب العلوم والمعارف في ذلك الميدان الذي تتحدث عنه الآية القرآنية . والقرآن ملئ بالآيات التي تتحدث عن مظاهر الكون ، وحديثه عن الكون هو حديث من يعلم أسراره ودقائقه ، مع أن البشرية كلها في وقت النبي لم تكن تعلم معظم تلك الأسرار، وكان يغلب على تفكيرها الأسطورة والخرافة. لذلك رأينا الجراح الفرنسي العالمي الشهير الدكتور: موريس بوكاي يتقدم إلى البشرية بأطروحة قال فيها : لقد قامت الأدلة على أن القرآن الذي نقرأه اليوم ، هو نفس القرآن الذي قرأه النبي محمد ، وما دام أن القرآن قد أفاض في الحديث عن الكون وأسراره ، فإننا نستطيع بهذه الحقيقة أن نعرف منها إذا كان القرآن من عند الله باختبار يعرفه كل عاقل في عصرنا . فإذا كان القرآن من عند محمد ، وهو مملوء بالوصف لمظاهر الكون : الأرض ، السماء ، الجبال ، البحار ، الأنهار ، الشمس ، القمر ، النبات ، الحيوان ، الإنسان ، الرياح ، الأمطار .. وغير ذلك ،فإن حديثه عن هذه المظاهر الكونية سيعكس لنا علم محمد صلى الله عليه وسلم وثقافته عن المخلوقات وأسرارها ، كما يعكس لنا علم مجتمعه وبيئته، وعلوم عصره في ذلك المجال ، وهي علوم غلبت عليها السذاجة والخرافة والأسطورة، وسنجد القرآن عندئذ مملوءاً بالخرافة والأسطورة والخبر الساذج عند حديثه عن الكون وأسراره ، كما هو شأن كل الكتب التي دونت في تلك الأزمنة بما فيها الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى التوراة والإنجيل التي طرأ عليها التحريف، هذا إذا كان القرآن من عند محمد . أما إذا كان القرآن من عند الله فسنراه عند حديثه عن المخلوقات وأسرارها يسبق مقررات العلوم الحديثة, وسنرى الاكتشافات العلمية تلهث وراءه فتقرر ما فيه من حقائق وتؤكد ما فيه من مقررات في شتى المجالات . ولقد قضى الدكتور موريس بوكاي لتحقيق هذا الاختبار عشر سنوات يتعلم فيها القرآن واللغة العربية ، ويقارن بين القرآن وبين الكشوف العلمية الحديثة , ثم ألف كتاباً سماه :" دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة " . وقد أثبت فيه سلامة القرآن من التحريف, ودخول التحريف على التوراة والإنجيل وأثبت تعارض التوراة والإنجيل مع العلوم الحديثة؛ كما أثبت سبق القرآن لهذه العلوم وبين أن هذا مما اشتمل عليه وعد الله القائل﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(فصلت:53). يقول د. بوكاي : "إن القرآن لا يخلو فقط من متناقضات الرواية وهي السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل بل هو يظهر أيضاً – بكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم – طابعه الخاص وهو التوافق مع المعطيات العلمية الحديثة . بل أكثر من ذلك ، وكما أثبتنا ، يكتشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمي من المستحيل تصور أن إنساناً في عصر محمد قد استطاع أن يولفها، وعلى هذا فالمعارف الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بلآ تفسير صحيح حتى الآن(7) . فهاهو ذا الحق يتبين كما وعد الله ، وهاهي ذي المعاني التفصيلية التي تضمنتها الآيات القرآنية عن الحقائق الكونية تُرى وتتجلى فتُعلم، كما قال تعالى﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ87وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ88﴾(ص:87-88). قال الفراء( في تفسير الحين الذي ذكرته الآية أنه:" بعد الموت وقبله ، أي لتظهر لكم حقيقةما أقول(بعد حين) أي في المستأنف(9) ". وذهب السدي(10) الكبير إلى هذا المعنى(11). وقال ابن جرير الطبري، بعد ذكر الأقوال المتعددة، في تفسير الحين الذي ذكرته الآية : و أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : أن الله أعلم المشركين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين ، من غير حد منه لذلك الحين بحد ، ولا حد عند العرب للحين لا يجاوز ولا يقصر عنه، فإذا كان ذلك كذلك، فلا قول فيه أصح من أن يطلق، كما أطلقه الله، من غير حصر ذلك على وقت دون وقت(12).
ومن أمثلة البينة العلمية في القرآن ما يأتي :
________________________________________
1- وصف الحاجز بين البحرين
التحقيق العلمي :
لقد توصل علماء البحار بعد تقدم العلوم في هذا العصر، إلى اكتشاف الحاجز بين البحرين، فوجدوا أن هناك برزخاً يفصل بين كل بحرين ،ويتحرك بينهما ويسميه علماء البحار الجبهة تشبيهاً له بالجبهة التي تفصل بين جيشين.وبوجود هذا البرزخ يحافظ كل بحر على خصائصه التي قدرها الله له، ويكون مناسباً لما فيه من كائنات حية تعيش في تلك البيئة.ومع وجود هذا البرزخ فإن البحرين المتجاورين يختلطان اختلاطاً بطيئاً،يجعل القدر الذي يعبر من بحر إلى بحر آخر يكتسب خصائص البحر الذي ينتقل إليه عن طريق البرزخ الذي يقوم بعملية التقليب للمياةالعابرةمن بحرٍ إلى بحر؛ليبقى كل بحرٍ محافظاً على خصائصه تدرج العلم البشري لمعرفة حقائق اختلاف مياه البحار وما بينها من حواجز :
• اكتشف علماء البحار أن هناك اختلافاً بين عينات مائية أخذت من البحار المختلفة في عام 1284هـ- 1873م على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة تشالنجر، فعرف الإنسان أن المياه في البحار تختلف في تركيبها عن بعضها البعض من حيث درجة الملوحة، ودرجة الحرارة ، ومقادير الكثافة ، وأنواع الأحياء المائية، ولقد كان اكتشاف هذه المعلومة بعد رحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام، جابت جميع بحار العالم. وقد جمعت الرحلة معلومات من 362 محطة مخصصة لدراسة خصائص المحيطات. وملئت تقارير الرحلة 29.500 صفحة في خمسين مجلداً استغرق إكمالها 23 عاماً. وإضافة إلى كون الرحلة أحد أعظم منجزات الاستكشاف العلمي فإنها أظهرت كذلك ضآلة ما كان يعرفه الإنسان عن البحر (13).
• بعد عام 1933م قامت رحلة علمية أخرى أمريكية في خليج المكسيك، ونشرت مئات المحطات البحرية، لدراسة خصائص البحار، فوجدت أن عدداً كبيراً من هذه المحطات تعطي معلومات موحدة عن خصائص الماء في تلك المنطقة ، من حيث الملوحة والكثافة والحرارة والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء، بينما أعطت بقية المحطات معلومات موحدة أخرى عن مناطق أخرى، مما جعل علماء البحار يستنبطون وجود بحرين متمايزين في الصفات لا مجرد عينات محدودة كما علم من رحلة تشالنجر.
• وأقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يميز مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض ، لكن لماذا لا تمتزج البحار وتتجانس رغم تأثير قوتي المد والجزر التي تحرك مياه البحار مرتين كل يوم، وتجعل البحار في حالة ذهاب وإياب ، واختلاط واضطراب، إلى جانب العوامل الأخرى التي تجعل مياه البحر متحركة مضطربة على الدوام مثل الموجات السطحية والداخلية والتيارات المائية والبحرية ؟ولأول مرة يظهر الجواب على صفحات الكتب العلمية في عام1361هـ-1942م. فقد أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن اكتشاف حواجز مائية تفصل بين البحار الملتقية ، وتحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث الكثافة والملوحة ، والأحياء المائية ، والحرارة، وقابلية ذوبان الأوكسجين في الماء. وبعد عام 1962م عرف دور الحواجز البحرية في تهذيب خصائص الكتل العابرة من بحر إلى بحر لمنع طغيان أحد البحرين على الآخر فيحدث الاختلاط بين البحار الملحة ، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحدودة بوجود تلك الحواجز. ويبين الشكل التالي حدود مياه البحر الأبيض المتوسط الساخنة والملحة، عند دخولها في المحيط الأطلسي ذي المياه الباردة والأقل ملوحة منها.
• وأخيراً تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار الملحة عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الصناعية ، والتي تبين أن مياه البحار وإن بدت جسماً واحداً ، إلا أن هناك فروقاً كبيرة بين الكتل المائية للبحار المختلفة ، تظهر بألوان مختلفة تبعاً لاختلافها في درجة الحرارة .وفي دراسة ميدانية(14) للمقارنة بين مياه خليج عمان والخليج العربي بالأرقام والحسابات والتحليل الكيمائي، تبين اختلاف كل منهما عن الآخر من الناحية الكيميائية والنباتات السائدة في كل منهما ووجود البرزخ الحاجز بينهما . وقد تطلب الوصول إلى حقيقة وجود الحواجز بين الكتل البحرية ، وعملها في حفظ خصائص كل بحر قرابة مائة عام من البحث والدراسة ، اشترك فيها المئات من الباحثين، واستخدم فيها الكثير من الأجهزة ووسائل البحث العلمي الدقيقة . بينما جلى القرآن الكريم هذه الحقيقة قبل أربعة عشر قرناً ، قال تعالى:﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ19بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ20فَبِأَيِّ ءَالَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ21يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ22﴾ (الرحمن:19-22).وقال تعالى:﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ﴾ (النمل:61).
________________________________________
المعاني اللغوية وأقوال المفسرين :
مرج : قال ابن فارس : مرج : الميم والراء والجيم أصل صحيح يدل على مجيء وذهابٍ واضطراب، ومرج الخاتم في الإصبع : قلق ، وقياس الباب كله منه ومرجت أمانات القوم وعهودهم : اضطربت واختلطت، والمَرْج : أصله أرض ذات نبات تمرج فيها الدواب(15). البحرين : قال ابن فارس: الباء والحاء والراء، قال الخليل: سمي البحر بحراً لاستبحاره وهو انبساطه وسعته... ويقال للماء إذا غلظ بعد عذوبته استبحر، وماء بحري أي مالح (16). وقال الأصفهاني : (17)وقال بعضهم : البحر يقال في الأصل للماء المالح دون العذب(18). وقال ابن منظور(19): وقد غلب على المالح حتى قلّ في العذب(20).فإذا أطلق البحر دل على البحر المالح، وإذا قيد دل على ما قيد به. والقرآن يستعمل لفظ الأنهار للدلالة على المياه العذبة الكثيرة الجارية.ويستعمل لفظ البحر ليدل على البحر المالح قال تعالى﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ﴾(إبراهيم:32).وكذلك يستعمل لفظ البحر في الحديث للدلالة على الماء الملح، فقد سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ:يا رسول الله إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟فقال رسول الله(هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)(21)
________________________________________
البرزخ : هو الحاجز : وقد ذهب أكثر المفسرين(22) إلى أنه لا يرى .البغي : قال ابن منظور: وأصل البغي مجاوزة الحد(23)، وبمثله قال الجوهري(24) والأصفها(25)ني. المرجان : قال ابن الجوزي(26) : وحكى القاضي أبو يعلي أن المرجان ضرب من اللؤلؤ كالقضبان وروي عن الزجاج(27) قوله : المرجان أبيض شديد البياض (28). وقال ابن مسعود : المرجان الخرز الأحمر . ونقل أبو حيان(29) عن بعضهم أن المرجان هو الحجر الأحمر(30). وقال القرطبي: وقيل المرجان عظام اللؤلؤ وكباره ، قاله علي وابن عباس رضي الله عنهما، واللؤلؤ صغاره، وعنهما أيضاً بالعكس أن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ والمرجان صغاره وقاله الضحاك وقتادة (31). وقال الألوسي(32): وأظن أنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان ، وفي المرجان معنى المرج والاختلاط فالأوفق لذلك ما قيل ثانياً فيهما(33). أي أن اللؤلؤ ما عظم منه والمرجان اللؤلؤ الصغار . والحاصل أن المرجان نوع من الزينة يكون بألوان مختلفة بيضاء وحمراء، ويكون كبيراً وصغيراً، وهو حجر يكون كالقضبان، وقد يكون صغيراً كاللؤلؤ أو الخرز ، وهو في الآية غير اللؤلؤ، وحرف العطف بينها يقتضي المغايرة . هذا والمرجان لا يوجد إلا في البحار الملحة. والآيات ترينا دقائق الأسرار التي كشف عنها اليوم علم البحار ، فهي تصف اللقاء بين البحار الملحة ودليل ذلك مايلي:
أولاً : لقد أطلقت الآية لفظ البحرين بدون قيد ، فدل ذلك على أن البحرين ملحان .
ثانياً : بينت الآيات في سورة الرحمن أن البحرين يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وقد تبين أن المرجان لا يكون إلا في البحار الملحة، فدل ذلك على أن الآية تتحدث عن بحرين ملحين، قال تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَان﴾ أي يخرج من كل منهما. فمن الذي كان يعلم أن البحار الملحة تتمايز فيما بينها رغم اتحادها في الأوصاف الظاهرة التي تدركها الأبصار والحواس، فكلها ملحة ، زرقاء ، ذات أمواج ، وفيها الأسماك وغيرها وكيف تتمايز وهي تلتقي مع بعضها؟ والمعروف أن المياه إذا اختلطت في إناء واحد تجانست، فكيف وعوامل المزج في البحار كثيرة من مد وجزر وأمواج وتيارات وأعاصير ؟ والآية تذكر اللقاء بين بحرين ملحين يختلف كل منهما عن الآخر، إذ لو كان البحران لا يختلف أحدهما عن الآخر لكانا بحراً واحداً ، ولكن التفريق بينهما في اللفظ القرآني دال على اختلافٍ بينهما مع كونهما ملحين . و ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان﴾ِ أي أن البحرين مختلطان، وهما في حالة ذهاب وإياب واختلاط واضطراب في منطقة الالتقاء، كما تدل اللغة على ذلك بلفظ مرج، وهذا ما كشفه العلم من وصف لحال البرزخ الذي يكون متعرجاً ومتنقلاً في الفصول المختلفة بسبب المد والجزر والرياح . ومن يسمع هذه الآية فقط ، يتصور أن امتزاجاً واختلاطاً كبيراً يحدث بين هذه البحار يفقدها خصائصها المميزة لها، ولكن العليم الخبير يقرر في الآية بعدها ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ أي ومع حالة الاختلاط والاضطراب هذه التي توجد في البحار، فإن حاجزاً يحجز بينهما يمنع كلاً منهما أن يطغى ويتجاوز حده . وهذا ما شاهده الإنسان بعدما تقدم في علومه وأجهزته ، فقد وجد ماء ثالثاً حاجزاً بين البحرين يختلف في خصائصه عن خصائص كل منهما . ومع وجود البرزخ فإن ماء البحرين المتجاورين يختلط ببطء شديد، ولكن دون أن يبغي أحد البحرين على الآخر بخصائصه؛ لأن البرزخ منطقة تقلب فيها المياه العابرة من بحر إلى آخر لتكتسب المياه المنتقلة بالتدريج صفات البحر الذي ستدخل إليه، وتفقد صفات البحر الذي جاءت منه وبهذا لا يبغي بحر على بحر آخر بخصائصه، مع أنهما يختلطان أثناء اللقاء، وصدق الله القائل ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ19بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ20﴾ (الرحمن:19-20).ولقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن الحاجز الذي يفصل بين البحرين المذكورين هو حاجز من قدرة الله لا يرى(34). وقد أشكل على بعض المفسرين الجمع بين اختلاط مياه البحار مع وجود البرزخ، إذ أن وجود البرزخ الحاجز يقتضي منع الاختلاط، وذكر الاختلاط مرج يقتضي عدم وجود البرزخ ، وقد زال الإشكال اليوم باكتشاف أسرار البحر على حقائقها .
________________________________________
khaled- المساهمات : 212
تاريخ التسجيل : 19/02/2009
العمر : 32
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى